عند مفترق الثمانين.. الأمم المتحدة بين تحديات حقوق الإنسان وتراجع الإرادة الدولية

عند مفترق الثمانين.. الأمم المتحدة بين تحديات حقوق الإنسان وتراجع الإرادة الدولية
الجمعية العامة للأمم المتحدة

بينما تحتفل الأمم المتحدة بمرور ثمانين عامًا على تأسيسها، تجد المنظمة الدولية نفسها أمام اختبار تاريخي يكشف عمق التحديات الحقوقية والسياسية التي تعصف بالعالم، وقد رفعت منظمة العفو الدولية، عبر أمينتها العامة أغنيس كالامارد، صوتها عشية انعقاد الدورة الثمانين للجمعية العامة في نيويورك، مطالبة باستجابة قوية تتجاوز البيانات الدبلوماسية، نحو سياسات عملية قادرة على وقف النزيف الإنساني الممتد من غزة إلى أوكرانيا، ومن السودان إلى أفغانستان وفنزويلا.

وأكدت كالامارد في بيان على موقع المنظمة الرسمي، اليوم الثلاثاء، أن ما يشهده العالم اليوم من إبادة جماعية، وانهيارات إنسانية، وتصاعد ممارسات استبدادية، يكشف فشل المنظومة الدولية في تحقيق أهدافها الأساسية، وحذرت من أن ملايين الأرواح أصبحت على المحك، مشيرة إلى أن التحديات الراهنة تتطلب إرادة سياسية راسخة وآليات محاسبة فعالة تضمن حماية المدنيين وحقوقهم الأساسية.

وضعت منظمة العفو الدولية ما وصفته بـ"الإبادة الجماعية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين" في صدارة أولوياتها خلال الدورة الأممية، داعية الدول الأعضاء إلى اتخاذ مواقف أكثر صرامة للضغط على إسرائيل عبر الأدوات الاقتصادية والدبلوماسية، وشددت كالامارد على أن الوضع "لا يمكن أن يستمر كالمعتاد"، معتبرة أن سياسات التجويع والحصار والقتل تمثل انتهاكات صارخة للقانون الدولي الإنساني.

تقارير تدين الشركات المتورطة

في سياق متصل، أعلنت العفو الدولية عن تقرير جديد سيصدر بالتزامن مع أعمال الجمعية العامة، يكشف دور 15 شركة كبرى من الولايات المتحدة والصين وإسبانيا وكوريا الجنوبية وإسرائيل في الإسهام المباشر أو غير المباشر في الانتهاكات بحق الفلسطينيين، ويهدف التقرير، وفق المنظمة، إلى تذكير الدول والشركات بالتزاماتها القانونية ومسؤولياتها الأخلاقية، ودفعها لوقف دعم الانتهاكات أو الاستفادة منها.

لم تقتصر أجندة العفو الدولية على فلسطين وحدها، بل شملت ملفات أوكرانيا والسودان وأفغانستان وفنزويلا، إضافة إلى قضايا المرأة والسلام والأمن، وشددت المنظمة على أن النزاعات الدموية وتراجع مساحات الحريات وحقوق المهاجرين واللاجئين والنساء والفتيات ومجتمع الميم، تعكس صورة قاتمة لمستقبل الحقوق والحريات عالميًا.

ثمانون عامًا من الاختبارات

تأسست الأمم المتحدة عام 1945 في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بهدف حماية السلم والأمن الدوليين وترسيخ مبادئ الكرامة والمساواة، غير أن العقود الماضية شهدت إخفاقات متكررة في منع النزاعات أو حماية المدنيين، مذابح رواندا 1994، وحصار سراييفو خلال حرب البلقان، وغزو العراق 2003، كلها محطات بارزة أظهرت هشاشة آليات المنظمة أمام إرادات الدول الكبرى. واليوم، مع مرور ثمانين عامًا، تتجدد الأسئلة حول قدرة الأمم المتحدة على الاستجابة لتحديات أشد تعقيدًا.

وبحسب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، واتفاقيات جنيف، فإن حماية المدنيين أثناء النزاعات والحروب واجب لا يحتمل التأجيل. كما ينص ميثاق الأمم المتحدة على منع الإبادة الجماعية والتصدي للجرائم ضد الإنسانية، لكن تقارير المفوضية السامية لحقوق الإنسان تشير إلى تزايد الانتهاكات في السنوات الأخيرة، مع غياب المساءلة الفعلية، وبدورها أكدت منظمة هيومن رايتس ووتش أن ضعف الإرادة السياسية لدى الدول الأعضاء يقوض فاعلية النظام متعدد الأطراف.

التفاوت الاقتصادي والمناخي

لم تغفل العفو الدولية عن الإشارة إلى التفاوت الاجتماعي والاقتصادي والانهيار المناخي باعتبارهما تهديدان مباشران لحقوق الإنسان، حيث أوضحت تقارير البنك الدولي أن أكثر من 700 مليون إنسان يعيشون في فقر مدقع، في حين تشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن عام 2023 سجل أعلى معدلات النزوح الداخلي بسبب الكوارث الطبيعية والنزاعات منذ بداية التوثيق، وهذه الأزمات المتشابكة تكشف أن حقوق الإنسان لم تعد قضية منفصلة عن الاقتصاد والمناخ والتكنولوجيا.

وأحد المحاور التي أثارتها العفو الدولية هو غياب الرقابة الكافية على التقنيات الجديدة، مثل الذكاء الاصطناعي والمراقبة الرقمية، وحذرت تقارير أممية حديثة من أن الحكومات والجهات الفاعلة غير الحكومية باتت تستغل هذه الأدوات لتقييد الحريات وملاحقة المعارضين، في ظل غياب أطر قانونية دولية ملزمة.

شددت كالامارد على أهمية دور منظمات المجتمع المدني في صياغة الرؤى المستقبلية للنظام الدولي، وأكدت أن الجمعيات المحلية والدولية قادرة على دفع أجندة الحقوق إلى الواجهة، حتى في ظل تراجع المساحات الديمقراطية، ومع ذلك، تواجه هذه المنظمات ضغوطًا متزايدة، من التضييق القانوني إلى الحملات التشهيرية وقطع التمويل.

التحديات أمام الجمعية العامة

الدورة الثمانون للجمعية العامة تمثل، وفق خبراء، فرصة نادرة لإعادة الاعتبار للقانون الدولي وإحياء الثقة بالمنظومة الأممية، لكن الانقسامات العميقة بين الدول الكبرى، من الولايات المتحدة وروسيا إلى الصين والاتحاد الأوروبي، تجعل من الصعب بلورة مواقف موحدة، ويرى مراقبون أن التحدي الأكبر يكمن في تحويل الشعارات إلى آليات تنفيذية واضحة تضمن الاستجابة للأزمات.

تشير بيانات الأمم المتحدة لعام 2024 إلى أن عدد النزاعات المسلحة في العالم بلغ 56 نزاعًا نشطًا، وهو الأعلى منذ الحرب العالمية الثانية، كما أُجبر أكثر من 114 مليون شخص على النزوح داخليًا أو اللجوء إلى الخارج، وفي السودان وحده، نزح نحو 10 ملايين شخص منذ اندلاع الحرب في 2023، هذه الأرقام تعكس حجم التحديات التي تواجهها الجمعية العامة في دورتها الحالية.

ثمانون عامًا بعد تأسيس الأمم المتحدة، يجد العالم نفسه أمام معضلة: إما استعادة المبادئ التي قامت عليها المنظمة الدولية وتحويلها إلى التزامات عملية، أو مواجهة انهيار ثقة الشعوب بالمؤسسات متعددة الأطراف. وتطالب منظمة العفو الدولية، ومعها منظمات حقوقية عدة، بإرادة سياسية تتجاوز الحسابات الضيقة؛ لحماية لمليارات البشر من الانتهاكات والفقر والنزاعات والإقصاء.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية